الصفحة الرئيسية السيرة الذاتية رسائلكم

المقالات » صدى الحرمان, شاعرة جاءت بعد أن نامت العصافير
June 1, 2016

شهر إبريل دائماً يذكري بصدى الحرمان, الشاعرة ذات الكلمات العذبة. لا أعلم لماذا استقر في ذاكرتي أنها تُوفيت في إبريل مع أن تاريخ آخر قصائدها يشير إلى أنها كانت معنا حتى أواخر شهر يوليو عام 2002م. ومع أن هذه المرأة الربيعية الروح بمرحها وموسيقاها الداخلية التي تخرج شعراً لا تنسى, إلا أن إبريل دائماً يشحذ ذكراها في مخيلتي.

في إبريلِ هذا العام ارتأيت أن أحتفي بها. كنت قد كتبت لها رسالة مطولة بعد وفاتها بأسبوعين, إلا أنني لم أكملها فظلت بشحنتها العاطفية في مكانٍ ما في انتظار النشر. لم أجدها عندما أردت أن أستكملها أو أنشر جزءاً منها في أعناب, فقررت أن أكتب مادة أخرى. فتحت كتابها الذي كانت أعدته للنشر قُبيْل وفاتها فصدر بعد وفاتها. أخذت أقرؤه ثانية وهنا كانت المفاجأة الجميلة التي كنت قد نسيت وجودها عبر السنين. إنها رسائلها.

رحلة حرف

ما اعتبرتُه رسائل هو مقدمة كتاب “رحلة حرف” ومقدمات بعض القصائد التي يحتويها. وهي الكنز الصغير الذي سأركز عليه هنا, ففي هذه الكلمات رأيت بُعداً آخر جميلاً لهذه الشاعرة الرائعة. في هذه الأسطر شعرتُ بها تُساررني ببعض دواخلها.. تبوح ببعض ضعفها ومخاوفها وتعلن عن قوتها وثقتها بنفسها رغم كل شيء..

استمع لهمساتها قارئي العزيز فإنها همساتٌ لطيفة مؤثّرة لها ملمسُ ورقِ الورد النديّ وصوتُ تغريدِ العصافير في صباحاتٍ مشرقةٍ أو مطيرةٍ لا بدّ أنها لاحت لها من خلال زجاج النافذة عندما كانت تطفئ الكمبيوتر المثبت قرب سريرها فتظلم شاشته, التي كانت نافذتها الكبرى على العالم, لتنظر إلى النافذة الأخرى المطلة على الفناء وتصغى للطبيعة.

في مقدمة ديوانها “رحلة حرف” تقول: “لقد جئت في آخر الزمن المتوج بالحب بعد أن نامت العصافير وانطفأت الشموع وذبلت آخر وردة انتظرت أن تهدى إلى قافيةٍ تشبه قافيتي ومشاعر تستمد وجودها واستمراريتها من مشاعري, جئت بعد أن رحلت كل الكلمات إلى دفاتر المجهول.

لم أجد ما كنت آمل في وجوده ولم يحدث ما حلمت به, حتى حبات الرمال على الشاطئ أبت أن تلامس قدمي.

كل شيءٍ يرفض أن يبادلني نفس المشاعر, كل اللحظات ترفض أن يشاركني إياها أحد. لأني جئت في آخر الزمن المتوج بالحب.”

هل سمعتها قارئي؟ هل لاحظت حنين قدميها اللتين عهدتا رمال البحر الرطبة عندما كانتا طفلتين إلى الشواطئ؟

وفي مقدمة قصيدة “جدار الصمت” تهمس لنا صدى:

“حاولت المستحيل أن يكتمل هذا الحب.. ولكن تردده كان أقوى من الجمر, لذا مشيت عليه لأصل.. ولم أصل أبداً.” ما أعمق هذه الكلمات. حتى المشى على الجمر يا صدى لا يضمن الوصول. هناك دائماً ما هو أقوى.

وفي مقدمة قصيدة “أنصاف الحلول” تقبع أجمل الكلمات:

“الشتاء قادم ولا زالت خطواتي مقيدة, المطر بإذن الله قادم وأنا فقدت بعضاً من صوتي الذي شبهته مراراً بصوت انهمار المطر.”

من لم يعرف صدى لا يعلم أنها كثيراً ما كانت تفقد “بعض صوتها”, فقد كانت مصابة بالربو وكثيراً ما يضعف صوتها, أو تفقد طاقتها على الكلام وهي لم تقل نصف ما كانت تريد قوله. ومن لم يعرف روحها المرحة وحنينها إلى حرية المشي الكاملة التي لم تمارسها إلا في طفولتها, ولا يعرف حب أهل الخليج للمطر لن يفهم معنى أن الشتاء قادم وخطواتها لا تزال مقيدة, من الذي يريد أن يبقى في السرير بدلاً من أن يخرج ليتحدى المطر ويستمتع بقطراته الباردة إذ تسيل على وجهه؟ أما قدوم المطر وقد فقدت بعض صوتها الشبيه بانهمار المطر ففيه من البيان والجمال ما لا أستطيع أن أصفه.

وفي مقدمة قصيدة “عمر الظروف” تقول صدى:

عيناك تقول إنك أنت, نبرات صوتك.. أسلوبك.. ومع ذلك فإن مشاعري تخاف كثيراً من الاقتراب. ترتعد من مجرد فكرة أنها قد تكون مخطئة.

عمر الظروف

ما ساعدت قلبي الجريح

أخشى كثير الاختيار

يمكن يكون ما هو صحيح

يمكن تكون غلطة عمُر

والا الهوى أصبح محال

وأرجع لقلبي أعتذر

وأقول كان وهم وخيال

 

وفي قصيدة “لا للرجوع” تقرر صدى أنه:

“من الظلم أن تكتب عن تجربة ما دون أن تعيش تفاصيلها سواء كانت تجربة مريرة أو تجربة تدعو للتفاؤل, أعتقد بأن الأمر يصبح عندها كأنك تصف طعم أكلة لم تذقها في حياتك.” ما لفت نظري في هذه المقدمة أنها تقرر ليس أنه من الخطأ أن تكتب عن تجربة دون أن تعيش تفاصيلها, أو من عدم الدقة أو الكذب أو أي شيء آخر, وإنما “من الظلم”! أتُراها تعني أن ذلك ظلمٌ للتجربة أم للآخرين أم للنفس؟ كلمة “ظلم” اختيار فيه كثيرٌ من الحساسية مثل كثير من اختيارات صدى الحرمان للكلمات.

وأخيراً قارئي العزيز عُد واقرأ قصيدة “عمر الظروف” أعلاه من المقدمة إلى النهاية وكأنها نصاً واحداً فقد أرفقت بها القصيدة كي تستمتع بهما معاً. ألا تشعرك المقدمة بأنها جزءٌ من القصيدة؟ وكأن تلك القصيدة كتبت بأسلوبٍ تجريبيٍّ حديث في الشعر العامي. القصائد  الخمس التي بها مقدمات حاولتُ قراءة كلٍّ منها كوحدةٍ واحدة, فشعرت أنني أقرأ أسلوبا حديثاً جميلاً في الشعر العامي. هل كانت الشاعرة تعني ذلك يا ترى؟ لا أحد يعلم بعد أن غادرتنا, ولكن المقدمات تأتي دائماً منسجمة مع القصائد لا كمقدماتٍ فقط وإنما كجزءٍ من النص الأدبي, وذكرني ذلك ببعض الأغاني الغربية المعاصرة التي يتخللها ما يسمى بالراب وهو جملٌ بلا قافية تُلقى بوتيرةٍ واحدة, كانت فناً مستقلاً بذاته, أما الآن فكثيراً ما تأتي كجزءٍ مضاف إلى أغنية مقّفاة ومغناة بالنمط المعتاد.

لنقرأ صدى ثانيةً فإن لديها الكثير مما لم نعلم بعد بوجوده لديها من جماليات الشعر وفنونه. ولنضعها دائماً في مكانها الذي تستحقه, الصف الأول لشاعرات وشعراء قطر والخليج.

دلال خليفة

نشر بمجلة أعناب العدد السادس

 

   
دلال خليفة، كاتبة روائية ومسرحية وقاصة من قطر، الموقع الرسمي الوحيد.

Delal khalifa, Qatari novel, short story and play writer. This is her official website.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *


كافة الحقوق محفوظة @ 2013 Site designed, developed & maintained by: Smart Demands Inc..