الصفحة الرئيسية السيرة الذاتية رسائلكم

المقالات » مصر الحضارة, أين ذهبت الحضارة
July 22, 2017

يحتج الإخوة المصريون دائماً, وخاصة في الإعلام المصري بأنهم أصحاب حضارة عمرها سبعة آلاف عام ليُسكتوا من ينتقدهم أو عندما يدعوهم إلى الكفّ عن إيذاء بعضهم بعضاً بالسجن والقهر أو حتى عندما يحاول تكذيب فريةٍ افتراها أحدهم عليه. دائماً نحن الفراعنة! فمن أنتم يا أصحاب البوادي التي لم تكن لتعرف لولا النفط؟

لا بأس, حضارة الفراعنة قد خلّفت حقاً روائع تراثية وعلوماً طبقوها بشكلٍ مبهرٍ من خلال الأهرامات والمعمار واستغلال ضوء الشمس بحسابات معقدة تحبس الأنفاس إعجاباً بهم كأصحاب حضارة علمية ومعمارية عظيمة. ولكن الحضارة مع الأسف ليست فكراً أثيرياً في الجوّ ينتقل من السلف إلى الخلف بشكل أتوماتيكي حتميّ. لكي تفخر بتلك الحضارة يجب أن تكون لديك علومها, أو على الأقل إذا تعذّرت علومها, وستفعل, أن تتعامل مع الآخرين بشكلٍ يوحي بأنّك سليل حضارةٍ قديمة راقية, لنقول إنّ إخوتنا المصريين حقاً أبناء حضارة عظيمة.

أما أن تجلس أمام كاميرا التلفزيون لتقدّم تشكيلةً من الأكاذيب والافتراءات, لكي تُؤلب الناس على بلدٍ كامل وتلصق به وبأهله ورموزه تهمٌ لا أساس لها ولا عائد غير التشفِّي فهو ليس من الحضارة في شيء. الإعلام المصري أصبح كالإعلام السوري تماماً, يصوغ الأخبار وفق ما يريد أن يضلل به الشعب. فأين بالله الحضارة؟ أين حقوق الإنسان المصري في احترام آدميته واحترام عقله؟  وكذلك ليس من الحضارة والرقيّ في شيءٍ امتهان كرامة الإنسان على يد السلطات التي يعيشها المصريون يومياً مع الأسف حتى لمجرد الوقوف في الشارع, أو لمحاولة كسب العيش بعد أن ضاقت السبل ببيع بضاعة هزيلة بالكاد توفر له قوت يومه. التلفزيونات المصرية والموالية للنظام الحاكم نفسها تذيع قصصاً مأساوية كل يوم, إذا فاتها أن بها شيء ضد الحكومة, عن ظلم المواطن البسيط وسحقه من قبل الشرطة وكل ذي سلطةٍ في البلد, فأين الحضارة؟

هنا فقط أتذكر أنَّ الحضارة الفرعونية قامت على الطبقية واستعباد الإنسان وامتهان كرامته, ألم يقل فرعون أنا ربكم الأعلى؟ والآن يقولها حاكم مصر بأشكالٍ وأشكال. ولا يفتح إنسان فمه بكلمة احتجاج إلا عوقب بالسجن وأحياناً حتى بالإعدام. قاطِعوا الأحجار قديماً وحاملوها بأوزانها القاصمة للظهور تحت لهيب الشمس ليبنوا بها منئشآتٍ خالدة لطبقة الفراعنة الحاكمة, نراهم اليوم بعرقهم وبؤسهم, يشتكون من انعدام كلّ شيء ومهددين بالحرمان حتى من الخبز, بل وحتى من البقاء في منازلهم كما هو الحال في سيناء التي تُخلى من أجل عيون إسرائيل والوراق التي رُوِّع سكانها, أيضاً من أجل غير المصريين, بينما يحظى حماة النظام من جيش وشرطة بالطمأنينة وبالعلاوة تلو العلاوة, فهل من بقايا حضارة إنسانية؟ المصريون لا يستحقّون البؤس, لا قديماً ولا حديثاً, ولكن دائماً ثمة من يؤمن بسياسة التجويع والامتهان ويشعر أن التضحية بالإنسان أسهل من التنازل عن شراء طائرة رئاسية جديدة.

الدين هو الذي يكوّن الضمير وخشية الله في البلاد والعباد واحترام الآخر ومراعاته, والتعايش معه بما يرضي الله. لا تخشوا الدين على أنفسكم فهو الذي يرتقي بالإنسان, بل اخشوا ضياعه لأنه يهوي بالإنسان إلى الحضيض ويجعله قادراً على ظلم الآخر وافتراء الكذب عليه, وتلفيق القصص إلى درجة إثباتها بصورٍ قديمة تخص أحداثاً أخرى في بلدانٍ أخرى تماماً للمزيد من شحن المصريّ ضد من يكرهونه وامتهان عقله بالتضليل وكأنّه لا يكفي أن تُمتهن كرامته, ويستخف بحياته بأن يُعدم بالعشرات لمجرد شبهة, وأحياناً حتى بلا شبهه, من أجل التمسح بنظامٍ مهما طالت مدته فهو مجرد حقبة زمنية ستذهب يوماً بغمائمها السوداء أو حتى المطيرة لو أمطرت, ولن يبقى للمتمسِّح إلا مواجهة ما عملت يداه في القبر وما بعده.

انتهى عهد جبروت الفراعنة على يد موسى عليه السلام إذ جاء بدينٍ سماويّ وإن لم يُحضر معه علوم الفلك المبهرة وفنون العمارة والرياضيات. ليس هذا النوع من الحضارة ما يحفظ كرامة الإنسان وإنما القيم واحترام الآخرين والتراحم, وهذه لا تأت بها إلا حضارة الإيمان بالله. وهذا بالضبط ما يبدو أن حكومة السيسي تحاربه إذ منعت ميكروفونات الأذان, ومنعت حتى الكمّ الهزيل من الدين الذي كان يدرَّس على استحياء من خلال مادّة ليست بذات درجات, وجرأت الناس على الإسلام حتى أصبح مدّعي الثقافة و”الدين”, وكثيرٌ ما هم, يتسابقون في ازدرائه. فكيف تدّعون الحضارة, التي تنتعش فيها عادةً حقوق الإنسان, وأنتم تسعون إلى تدمير كل أثرٍ لأعظم حضارةٍ مرت بكم؟ الإسلام مثل أي دين سماويّ يولّد الخير لا الإرهاب. أما الإرهاب فيأتي به الشر والجهل بالدين, وإن لجأ الشر إلى التقنّع بالدين أحياناً للوصول إلى حيث يريد.

ولا أمل إلا في أصحاب الحضارة الحقيقية في مصر, حضارة الدين التي لا تزال خضراء في قلوب كثيرٍ من المصريين, مسلميهم وأقباطهم, بما يجعلهم يستنكرون الظلم والإرهاب ليس فقط من مجرمي تفجير أجسادهم, وإنما أيضاً من مجرمي الاستبداد الذين يظلمون المساكين ويعدمون العشرات والمئات من البشر بلا محاكمة ولا أدلة على استحقاقهم القتل, فقط لأنّ بأيديهم سلاح دولةٍ يؤمن نظامها بسحق الإنسان من أجل الدولة. وما الدولة عنده إلا النظام الحاكم وأذرعته.

والحضارة الدينية التي أعنيها قطعاً ليست إخوان أو شيوخ أو قساوسة, وإنما خشية الله في العباد والبلاد التي تؤسس لجميع القيم التي تحتاجها أيّ دولة متحضرة, والتي صمت أصحابها طويلاً. ولكن يبدو أن أصواتهم بدأت تتململ وتعلو بازدياد مظاهر السحق, وقد تزداد علواً بما يوقِف الظلم والامتهان وسيل الدماء البريئة ويعيد لمصر حضارتها ومكانتها الرفيعةً التي كانت.

دلال خليفة

   
دلال خليفة، كاتبة روائية ومسرحية وقاصة من قطر، الموقع الرسمي الوحيد.

Delal khalifa, Qatari novel, short story and play writer. This is her official website.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *


كافة الحقوق محفوظة @ 2013 Site designed, developed & maintained by: Smart Demands Inc..