|
أيام الماعز, أو “الحياة الماعزية” كما في لغتها الأصلية (الملبارية), رواية أخذت تبرز في الأوساط العربية وتثير شيئاً من الجدل بعد أن ترجمها المترجم الكيرلاوي سهيل عبد الحكيم الوافي إلى العربية إثر انطلاقتها الهائلة مذ نشرت للكاتب الهندي الكيرلاوي بيني دانييل المعروف بـ بنيامين, حتى أن عدد طبعاتها تجاوز المائة. ولا عجب من انتشار هذه الرواية بهذا الشكل, فكل الروايات التي تصدم القارئ بمآسي كانت خافيةً عليه وتقدم له نماذج بشرية تستثير العواطف المختلفة, تجد دائماً طريقها إلى قلب القارئ.
وجماليات هذا النوع من الأدب قد تأتي أيضاً من تقديم ثقافات مختلفة وبيئاتٍ جديدة على معظم القراء. أيام الماعز مثلاً تطرح معلوماتٍ مختلفة عن الصحراء بأسطوريةٍ محببة. فحتى لو كنت من سكان بلدٍ صحراوي الطبيعة فستجد معلوماتٍ تبهرك عن الصحراء, فالمرور أو التخييم بها للتنزه ليس كتخيل التعرض لوخز رمالها في يومٍ عاصف, أو مواجهة كائناتها أو معاناة جفافها وقسوتها في رحلة هروبٍ من القهر والتسخير والإنقطاع الجبري عن العالم. ولعل أجمل ما في الرواية هو الجزء الذي يسهب فيه الكاتب في وصف الصحراء بما فيها من كثبانٍ غير مستقرة, وتشكيلاتٍ رملية عجيبة, وبما فيها من أحياء.
وقد يكون من أبلغ ما في هذه الرواية – وقد جاء توفيقاً- رمزية الصحراء في حياة نجيب, بطل الرواية, ففراغها يرمز إلى العدم, والقصة تقريباً عن العدم حيث يجمع نجيب ما فوقه وما تحته ويقترض مبالغ أخرى, ويمده معارفه من كل حدبٍ وصوْبٍ بما يكمل الثلاثين ألف روبية التي سيشتري بها تأشيرة سفرٍ إلى الخليج, ليفاجأ ما إن يصل بانعدام كل شيءٍ حلم به وكل شيءٍ كان لديه من قبل, حتى إمكانية المحافظة على نظافته الشخصية, إلى أن لا يتبقّى في حوزته إلا العدم, الذي يمتد عميقاً في نفسه كامتداد الصحراء الفارغة أمامه.
والإنسان عندما يكتشف أنه لم يبق لديه إلا العدم فمن الطبيعي أن يقايضه بأيّ شيء يبدو أقل عدميةً وإن كان مصيراً مظلماً غير مأمون العواقب مثل السجن. وهكذا يتجه نجيب إلى السجن ليراود حراسه عن لا قانونية إقامته التي أخفى سيده القاسي أوراقها. ويفرح فرحاً شديداً عندما تنجح محاولته هو وهاربٌ آخر في إقناع الحراس بأنهما يستحقان السجن. بهذا الموقف الساخر تبدأ الرواية, ثم تنطلق راويةً لنا قصة نجيب منذ أن أقنعته زوجته بالسفر إلى الخليج.
الرواية مبنية على قصة واقعية, حيث يحوّل بنيامين قصة نجيب, العامل الذي يتعرض للمهانة في الواقع ويتجرع العدم في تجربةٍ مُرّة له في صحراءٍ سعودية, إلى عملٍ أدبيِّ من خلال كثيرٍ من الإضافات التي إلى حدٍ ما تُأسطر تجربة هذا الإنسان. وهو لا يُخفي هذا إذ يقول في لقاءٍ له في موقعٍ إلكتروني إنه لجأ في سبيل تحويل تلك التجربة إلى رواية إلى “إضافة بعض الشخصيات والعناصر”, التي أثارت إضافتها, كما يقول, حفيظة نجيب الحقيقي من أن يلتبس الأمر على الناس فيخلطوا بين شخصيات الواقع والشخصيات الخيالية.
ويتجلى الفكر الشرقي في هذا العمل في أسطورية بعض شخصياتها التي تظهر وقت الحاجة إليها كملائكة رحمة في أحلك حاجات نجيب إلى اليد الملائكية التي تأخذ بيده, ثم تختفي من المشهد بعد أن تؤدي دورها. أبرزها وأشدها أسطورية وغنىً بالسمات التي قد تعتبر ملائكية في مقاييسنا البشرية شخصية ابراهيم القادري, الراعي الصومالي “الخبير بأمور الصحراء”, والذي يظهر ليهرّب نجيب عبر صحراءٍ يجدان فيها الأهوال, إلى أن يصل به إلى مكانٍ قريب من شارعٍ تمر به الشاحنات, ثم يختفي تماماً.
ماعزية نجيب المبروزة في العنوان تأتي من إهانته وتقزيم بشريته من خلال سوء المعاملة والحرمان والتجريد من كل الحقوق إلى أن يصبح كالمعز والأغنام التي يرعاها. إلا أنني أرى أن ماعزيته تأتي أيضاً من مخالطته لهذه الأغنام واعتماده عليها في كل شيءٍ تقريباً, فهو يحدثها بهمومه, ويمنحها أسماءً بشرية, حتى أنه تقريباً يتبنى مرة أحد صغارها إذ وُلد على يديه ويطلق عليه الاسم الذي اختاره لابنه المنتظر. ثم هناك تَغَذّيه على حليبها ولجوئه إليها للتدفئة ولبعض احتياجاته الأخرى, حتى أنه عندما يشعر بالغضب من وضعه ذات مرةٍ ينطلق إليها لينفّس عن غضبه فيها فيوقع عليها العذاب والألم, وهو الموضع الوحيد في الرواية الذي يفقد القارئ فيه تعاطفه مع هذا الإنسان المطحون.
ومع أن التركيز في الرواية على الاضطهاد الذي يتعرض له نجيب في الخليج, إلا أنه في هذه الرواية تترسخ (بشكلٍ غير مقصود) حقيقةٌ مُرّة عن الطبقية في بعض البلاد الآسيوية, التي تُفقد الإنسان عادةً شعوره بجدوى الدفاع عن نفسه. فعندما تبدأ الحكاية باستجابة نجيب العمياء, والجبانة بعض الشيء -هو وفتىً يأتي معه- لأوامر شخصٍ ما زعم أنه كفيلهما بلا دليل, وتسليمه وثائقهما بلا مقاومة, وقبول غطرسته ووقاحته قبل مغادرة المطار, تعلم أن نجيب لم تنكسر نفسه أساساً في الخليج, بل جاء من كيرلا بنفسٍ كسرتها الحاجة والطبقية إلى حدٍ ما فسهُل على الكفيل الظالم سحقها. لا أظن أن أحداً غيري قد لاحظ هذه الملاحظة التي أحزنتني حقاً وأشعرتني أن الأحداث المؤلمة التي تلت وصول نجيب قد لا تعدو كونها تفصيلاً لموجز إنكسار كرامة الإنسان الذي رأيناه في المطار.
وهذا ليس تبريراً لظلم بعض الكفلاء هنا, فنموذج كفيل نجيب بمعاملته الوحشية وقسوته موجودٌ على امتداد الوطن العربي, إلا أنه لا يشكل إلا أقليّة ضئيلة حمقاء وجاهلة بحقوق الإنسان شرعاً وقانوناً, ومجردة من الرحمة.
الرواية مشوقة جداً وبها شيءٌ من الفكاهة رغم مأساويتها, وجميلة رغم بضعة أمور صغيرة تشعرك أن الكاتب لم يوفق فيها إلى جعل مجريات الرواية أكثر تقيداً بالواقع كما هو متوقع من عملٍ مبنيِّ على أحداثٍ واقعية, مثل قيام عاملٍ واحد بكَمٍّ غير منطقيٍّ من الأعمال اليومية, منها رعي الأغنام على أربع دفعات مع ملء حاويات مائها بشكل بدائي يستنزف الوقت, وحلب المئات منها والعناية بنظافة حظائرها الأربع بالإضافة إلى حظيرة جِمالٍ خامسة, والحيز الزمني في النهار الواحد ومحدودية القدرات البشرية يتعارضان مع ذلك.
ولكن, ورغم كل شيء, تبقى أيام الماعز روايةً مؤثرة وجديرةً بالقراءة, خاصة وأنها تُطلعنا على فكر شعبٍ لم يتسنّ لنا بعد الاطلاع عليه, شعب عرفنا منه الجانب العملي الذي نراه في شؤوننا الحياتية المختلفة, وربما الفنيّ من خلال الأفلام والموسيقى, أما الجانب الفكريّ البحت فلم نره إلا بشكلٍ هامشيٍّ جداً من خلال ما يُؤْثَر عن غاندي, ولم يحظ أغلبنا بفرصة رؤيته أدباً معاصراً بين دفّتيْ كتابٍ إلا بعد ترجمة هذه الرواية..
دلال خليفة
نشر بمجلة أعناب العدد الخامس
|
Leave a Reply